الجزء (1) من (4): حلُّ الخروج المشترك من الأزمة الفلسطينيَّة: سجناءٌ داخل خبرتهم الخاصة
مقطع الفيديو (1) المقابل على YouTube: https://www.youtube.com/watch?v=YZtBEU0ijbM&t=10sنظرًا لما تشهده فلسطين من اضطراباتٍ مستمرة، تكاد تُجمع كل دول العالم حاليًا على دعم الحل بدولتين تعيشان جنبًا إلى جنب.
لقد جانبهم الصوابُ جميعًا في ذلك.
إن «رجال الدولة»، بتوصيات ومشورة من «الخبراء»، هم من أطلقوا شرارة الأزمة الفلسطينية منذ 110 عامًا. وعلى مدى 75 عاما، حاول «رجال الدولة» و«الخبراء» حل هذه الأزمة، ولم يُجنى من مساعيهم إلا الفشل الذريع. ويمكننا أن نلخص مُختلف أسباب هذا الفشل في فكرةٍ واحدة، وهي أن كل طرفٍ من طرفي هذه الأزمة لم يُثمن مدى جاذبية الصفقات بحجم ما تعود به من فوائدٍ على كل طرف، وإنما بمدى الإيلام والمشقة التي اسطاع أن يفرضها على الطرف الآخر. إذ يرون الموقف الفلسطيني كما لو كان صراعًا صفريا بين غالبٍ ومغلوب.
والآن قد حان الوقت لإعطاء فرصة لرأي خارجي مستقل عن الأزمة، ليطرح الحل الواضح للخروج المشترك دون غالبٍ ومغلوب، والذي يبدو أنه لم يؤخذ بعين الاعتبار من قبل بين الخبراء.
ولكن دعونا أولًا نستعرض لمحة تاريخية مُوجزة.
إن استيطان الشعبُ اليهودي لفلسطين يمتد لما قبل عام 1200 قبل الميلاد. (فكلمة «فلسطين» مشتقة من كلمة «فلستا» التي يُرجح أنها تسمية لسكان يونانيين لا علاقة لهم بالعرب الفلسطينيين المعاصرين.) بعد فشل الثورة على الإمبراطورية الرومانية، حوالي عام 100 بعد الميلاد تقريبًا، هجر غالبية اليهود العظمى تلك المنطقة، لكنهم حافظوا على ثقافتهم في جالياتهم التي تناثرت على نطاق واسع.
وبحلول عام 1500 تقريبًا، خضعت فلسطين والمناطق المجاورة، والتي يشغلها العرب الآن، للإمبراطورية العثمانية. بعد ذلك، وتحديدًا خلال الحرب العالمية الأولى، وعد البريطانيون الفلسطينيين بالاستقلال إذا دعموا الحلفاء ضد العثمانيين.
ولم يكن في نية البريطانيين أبدًا الوفاء بهذا الوعد. وفي ظل الانتداب على فلسطين عام 1922 بعد الحرب العالمية الأولى، بدأوا مشروعًا طويل الأمد لجلب المهاجرين اليهود وإنشاء دولة يهودية منفصلة على أرض فلسطين في نهاية المطاف. وفي نفس الوقت تقريبًا من عام 1922، كانت الحكومة البريطانية منهمكة أيضًا بالتفكير في كيفية منح معظم أيرلندا استقلالها، مع اقتطاع ست مقاطعات مؤيدة للإنجليز للاحتفاظ بها تحت اسم أيرلندا الشمالية. وكانت تلك هي النسخة البريطانية من «حل الدولتين المتجاورتين». (ومن هنا أتى الاسم الرسمي المرهق: المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وأيرلندا الشمالية.) وقد أسفر ذلك الحل عن 80 سنةُ من حرب العصابات في أيرلندا إلى جانب الاعتقالات الجماعية والإعدامات والتفجيرات الإرهابية والعداء السياسي المستمر حتى يومنا هذا - وهو ما يمثل دليلا قاطعًا على الغباء منقطع النظير الذي اتسم مَن كان مسؤولًا في بريطانيا إبان 1922، أيًّا كان هذا المسؤول، ومن اعتمد عليهم من خبراء.
وقد نشأت حركة إنشاء وطنٍ لليهود في القرن التاسع عشر، وكان يُطلق عليها اسم «الصهيونية». وقد حظيت الحركة بدعم من مُختلف الحكومات والشخصيات المؤثرة لأسباب تراوحت بين «يجب أن يكون لليهود وطن يلم شتاتهم» بكل ما يحمله من صدق، وبين «اخلق للعرب شيئًا يثير مخاوفهم» بكل ما ينطوي عليه من رؤيةٍ استراتيجية، وبين «نحن أيضًا لا نرغب في وجودهم هنا، فدعونا ننقلهم إلى مكان بعيد» بكل ما يكتنفه من خبثٍ ومكر.
وكان بوسع العرب أن يروا إلى أين يتجه هذا الأمر: تقطيع أوصال فلسطين. وعلى مدار 30 عامًا بعد الحرب العالمية الأولى، شرع العالم العربي بأكمله في مقاومة الحركة الصهيونية. ولكن في عام 1947، ومع شعور الذنب والأسى الذي حاصر دولًا عديدة إزاء إبادة اليهود (الهولوكوست)، وقع الأمر فجأة! ووُلِدت دولة إسرائيل وأعطيت ما يقرب من نصف مساحة فلسطين.
لقد كان هذا ظلمًا فادحًا للفلسطينيين وكان - كما أثبتته السنوات الخمس والسبعون الماضية - خطأ فادحًا من منظور السلام العالمي.
أما الحصة الفلسطينية المتبقية من أرض فلسطين، فقد قُسمت تقسيمًا عشوائيًا إلى أرباع وأنصاف متباعدة. وفي يومنا هذا، يقتصر وجود الفلسطينيين على تكدسهم في قطاع غزة (ومساحته 365 كيلومترًا مربعًا) الذي تديره حماس، وهي مُنظمة إرهابية تدعمها إيران ولا تحظى بشعبية خاصة حتى بين الفلسطينيين أنفسهم؛ وفي الضفة الغربية المفككة (ومساحتها 5,800 كيلومتر مربع)والتي تديرها إسرائيل فعليًا. وتمتلك إسرائيل الآن 22 ألف كيلومتر مربع، بخلاف الضفة الغربية، فضلًا عن مرتفعات الجولان التي تسيطر عليها بمساحة 1000 كيلومتر مربع والتي استولت عليها خلال حرب الأيام الستة في 1967 ولا زالت تحت احتلالها منذ ذلك الحين. (إجمالي مساحة فلسطين 30 ألف كيلومتر مربع، أي ما يعادل مساحة تايوان تقريبًا). وفي انتهاكٍ منها للقانون الدولي، شجعت إسرائيل الاستيطان في كلتا المنطقتين.
وفي 7 أكتوبر 2023، نفذت حماس غارة أسفرت عن 1500 إسرائيلي بريء بين قتلى ورهائن. لقد كان عملًا مُفجعًا لا يمكن تبريره. لكن ما لا يُمكن تبريره أيضًا تجريدُ الفلسطينيين من ممتلكاتهم خلال الفترة بين 1947 و1948، وكذلك الحرب التأديبية التي شنتها إسرائيل والتي دمَّرت بالفعل أكثر من نصف قطاع غزة وقتلت أكثر من 30 ألف شخص، معظمهم من المدنيين. لقد وقع الجميع في الخطأ.
ويبدو أن معظم زعماء العالم عاجزون عن التعلم من التاريخ، حيث يسعون للوصول إلى هدنة بشأن ما يُطلق عليه «حل الدولتين»، وإنشاء دولة مستقلة للفلسطينيين داخل حدود فلسطين.
وترجمة ذلك: امنح الفلسطينيين وعدًا كاذبًا جديدًا. ثم قطِّع فلسطين مرة أخرى، من خلال إقناع إسرائيل بالتنازل عن الأراضي التي تسيطر عليها حاليًا، بغرض إنشاء دولة مُعادية ذات سيادة بجوارها.
وما هذا الأمر إلا إعادة إنتاج لمُخططات السلام السالفة، والتي طالبت الجانبين بتقديم تنازلات كبيرة تتعارض مع مصلحتيهما الذاتية.
وينبغي أن يُدرك أي شخص يستطيع استيعاب الخرائط أو قراءة شفاه بنيامين نتنياهو أن إسرائيل تُدرك الآن حاجتها إلى السيطرة على فلسطين بأكملها: «من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط». والمفارقة أن هذا هو نفسه الشعار الذي يرفعه الفلسطينيون أيضًا.
وقد توقف إسرائيل حربها للتفاوض بشأن الرهائن أو لتهدئة الرأي العام العالمي، لكن هدفها على المدى الطويل لا لبس فيه، ولا يتضمن حل الدولتين على النحو الذي يراه زعماء العالم حاليا.
أما بالنسبة للفلسطينيين، فلا يوجد جزء معقول من فلسطين يستطيع أن يكفل لهم اقتصادًا ذاتي الاستدامة. لقد صَدَق ذلك الوصف في 1947، واليوم بات أشد صدقًا وصدقًا. وقبل هجوم حماس، كان الاقتصاد الفلسطيني يتشكَّل في الأساس من المنح الأجنبية. فلسيت لفلسطين أي مواردٍ معدنية. وتكاد الأمطار لا تهطل على الضفة الغربية فعليًا، ولا توجد وسيلة لاحتجاز مياه الأمطار في غزة التي تعاني مياهها الجوفية الساحلية من شدة التدهور والتلوث. وهو ما يستبعد بدوره أي آفاقٍ للزراعة. (وبالمناسبة، فرغم كل ما تتغنى به إسرائيل من جهودها من أجل ازدهار الصحراء، إلا أنها لا تحقق من الزراعة سوى 1% من ناتجها المحلي الإجمالي فحسب).
والنتيجة؟ فإن قسمًا كبيرًا من سُكان دولة «فلسطين» المتصوَّرة ذات السيادة سينتهي بهم المطاف بين براثن البطالة أو الاشتغال بأعمالٍ وضيعة في إسرائيل المجاورة. وستكون الدولة «مستقلة»، ولكنها تعتمد اعتمادًا أساسيًا على المساعدات الخارجية المستمرة وعلاقة دونيَّة مع إسرائيل.
وإن غاب احترام الذات، فما السيادة إلا خدعة.
كما ينبغي أن يكون واضحًا أيضًا أنه مع سقوط نحو 30 ألف قتيل فلسطيني وإصابة نحو 60 ألف شخص آخرين بين جريح أو مصابٍ بتشوهاتٍ دائمة خلال الرد العسكري الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر، صار حتميًا أن تتسع رقعة الكارهين لإسرائيل إلى مستويات أوسع. فهل نظن أن إسرائيل يغيب عنها ذلك؟ ولماذا إذن نجد العديد من زعماء العالم وهم يحثون إسرائيل على قبول «حل» يتلخص جوهره في إقامة دولة ملاصقة أصبحت الآن أكثر عدائية، والتي تستطيع إيران وحماس إعادة تسليحها استعدادًا للجولة التالية من المجازر؟
وفي ظل تلك النماذج القائمة، فليس ثمة سلام طويل يُمكن إرساؤه على المدى الطويل. وقد نشهد وقفًا مؤقتًا لإطلاق النيران، وقد يطول هذا الإيقاف، ولكن الحرب حتمًا لن تضع أوزارها إلا بعد أن يقضي أحد الطرفين على الآخر ببساطة.
الجزء (2) من (4): حلُّ الخروج المشترك من الأزمة الفلسطينيَّة: فنُّ إبرام الصفقات الحقيقي
مقطع الفيديو (2) المقابل على YouTube: https://www.youtube.com/watch?v=7jyjtP12Djg&t=8sإن أي حل قائم على وجود دولتين متجاورتين لن ينجح لأسباب ملموسة أكثر من مجرد الكراهية المتبادلة والتفضيلات الإستراتيجية للشعب اليهودي. ففلسطين، من الناحية الطبوغرافية أو بسمات تضاريسها، لا تبشر بأي شيء واعد على مستوى التقسيم السياسي. ورغم انحدار المنطقة نحو البحر الميت، إلا أنها تتألف في معظمها من صحراء جرداء مسطحة دون غطاء نباتي، وليست لها حدود طبيعية داخلية أو نقاط اختناق عسكريةً صالحةً لتبريرِ قيامِ كيانٍ مُستقلٍّ يُدافعُ فيها عن نفسِه.
إن «رجال الدولة»، بتوصيات ومشورة من «الخبراء»، هم من أطلقوا شرارة الأزمة الفلسطينية منذ 110 عامًا، وعلى مدى 75 سنة، حاول رجال الدولة وخبراؤهم حل هذه الأزمة، ولم يُجنَى من مساعيهم إلا الفشل الذريع. والسر وراء ذلك هو نظرتهم إلى فلسطين باعتبارها صراعًا صفريًا بين غالب ومغلوب، لينتهي بهم المطاف الآن سجناءً داخل خبرتهم التخصصية.
إن الأزمة التي استمرت 75 سنة قد بددت بشكل قاطع أي وجاهة للأمفل في أن يتمكن الفلسطينيون والإسرائيليون من تقاسم الأراضي المتجاورة برضاء وسعادة، نظرًا للخطأ الفادح المُرتكب حين جُرِّد الفلسطينيون من ممتلكاتهم عام 1947 و1948. ومع ذلك، فإن هذا هو «الحل» الذي تطرحه دولٌ مثل الولايات المتحدة وروسيا والمملكة المتحدة وفرنسا وكندا وألمانيا والصين وسنغافورة والأرجنتين ونيجيريا وإندونيسيا وأستراليا والهند وباكستان وبنغلاديش والمكسيك ومعظم الدول العربية — بل في واقع الأمر هو «الحل» الذي تتبناه كل دولة على وجه الأرض تقريبًا مهما كانت أيديولوجيتها أو قناعاتها السياسية.
فالجميع يغضون طرفهم عن رؤية الحقيقة الجليَّة. والآن قد حان الوقت لإعطاء فرصة لرأي خارجي مستقل عن الأزمة، ليطرح الحل الواضح الذي يغفله الجميع.
إن الحل الواضح للخروج المشترك دون غالبٍ ومغلوب لا يتمثل في حل الدولتين إلى دولتين متجاورتين.
بل دولتان متباعدتان.
دولتان اثنتان لكنهما متباعدتان إحداهما عن الآخرى.
حيث يتعيَّن على أحد الطرفين أن يرحل. وهو ليس الحل الأمثل من الناحية الأخلاقية، ولكنه الحل الوحيد المتاح في الوقت الحالي.
لقد عاش الفلسطينيون على أرض فلسطين لمدة 2000 عام، ولهم أحقيَّة أفضل مما للشعب اليهودي فيها رغم أي شيء، فمطالبة الشعب اليهودي بفلسطين عام 1947 و1948 قد سقطت بالتقادم بعد مرور ألفي عامٍ كاملة. لكن الواقع يُخبرنا أن الإسرائيليين لن يرحلوا، وليس للعالم أي حافز لإقناعهم بالرحيل.
ولذلك، ورغم ما ينطوي عليه ذلك من ظلم وإجحاف، فإن عبء الرحيل يقع على عاتق الفلسطينيين باعتبارهم الطرف الرشيد في هذا الصراع. ولا يُعد هذا اقتراحًا بإعادة توطين عرقي قسري (كمثل ذلك الذي فرضته الولايات المتحدة على العديد من الأمريكيين الأصليين في القرن التاسع عشر، وكما فعلت كندا – على الرغم من صورتها التقدمية المزعومة – مع سكانها الأصليين، حتى عام 1967(!)).
اطلع على
https://www.learnalberta.ca/content/aswt/healing_historical_trauma/documents/relocation_of_aboriginal_communities.pdf.) بل هي فرصة، لمن يريد اقتناصها، من أجل بناء حياة جديدة بسلام في مكان مُختلف. وإذا قُدِّمت الحوافز الكافية، فقد يستنتج عدد كاف من الفلسطينيين أن رحيلهم يصبُّ في مصلحتهم الشخصية.
يمكن إنشاء فلسطين جديدة ذات سيادة. ولكن فقط بعيدًا عن فلسطين القديمة.
من الواضح أن ثمة عقبات مالية ولوجستية وعاطفية هائلة تحول دون رحيل أعداد كبيرة من الناس وبناء وطن فلسطيني جديد في مكان آخر. ولكنه سيظل حلًا أكثر جدوى من بناء دولةٍ فلسطينية جديدة وسط الأنقاض والأطلال (— ومن سيموّل مقترحًا كهذا؟)، في حين يعيش مليونا فلسطيني - في أحسن الظروف - في مخيمات غزة لعقود من الزمن في المستقبل المنظور، ويعيش 3 ملايين فلسطيني آخر في الضفة الغربية التي تتصاعد ما تشهده من نزاعات. وسيظلون جميعًا تحت التهديد المستمر، ليس من إسرائيل وحدها، وإنما أيضًا من حركة حماس التي تمولها إيران، والتي لا تهدف إلى خدمة الشعب الفلسطيني، وإنما للاستمرار في إثارة المتاعب.
ونسرد فيما يلي بعض الاعتبارات المرتبطة بحل الدولتين إلى دولتين متباعدتين:
1. مهما كانت المشاكل العملية المتوقع ظهورها في فلسطين الجديدة المقامة في مكان آخر، فإن نفس المشاكل - أو ربما مشاكل أسوأ - ستنطبق على فلسطين المعاد بناؤها وسط الأنقاض والأطلال.
2. لن يرغب بعض الفلسطينيين في الرحيل، تماما كما يقاوم بعض الناس دعوات الابتعاد عن مسار الإعصار. ولكن لا بأس في ذلك.
3. من حسن الحظ أن الحصول على موافقة الأغلبية الفلسطينية ليس شرطًا مطلوبًا، مثلما لم يكن من الضروري أن ينتقل أغلبية يهود العالم إلى إسرائيل في عام 1948، أو حتى أن يتم استشارتهم. لقد كانت إسرائيل نموذجًا لشعار: «إن بنيناها، فسوف يقدمون إليها»، وكذلك ستكون فلسطين الجديدة. فبضع مئات الآلاف تكفي لإقامة دولة حيَّة اقتصاديًا وسياسيًا. فأيسلندا يتمتع اقتصادها باكتفاءٍ ذاتي معقول وعدد سكانها لا يتجاوز 350 ألف نسمة. وقد أعلنت إسرائيل استقلالها عام 1948 وكان عدد سكانها اليهود 850 ألف نسمة فقط. واليوم قد يكون لدينا عددٌ كافٍ من الفلسطينيين الذين سئموا الحرب والصراع وعلى استعداد لتجربة حلول أخرى. وسيتبعهم المزيد في نهاية المطاف.
4. لا يمكن لأي خطة سلام أن تأتي من الولايات المتحدة أو أي شخص آخر في الغرب أو تتوقف عليهم. فكبرياء العرب يأنف ذلك.
5. لذلك، فإن المبادرة بحل الدولتين إلى دولتين متباعدتين يجب أن ينبع من قلب العالم العربي نفسه. ومن الناحية المثالية، ينبغي لدولة واحدة أن تتقدم وتأخذ بزمام مسؤولية هذه المهمة.
6. لحسن الحظ، فإن الدول العربية الغنية بالنفط لديها مجتمعة 4 تريليون دولار من الثروة النفطية المتراكمة، بخلاف رغبتها الراسخة في إنفاق بعضٍ من هذه الثروة في سبيل بسط هيبتها وتعزيز نفوذها.
7. لدى العديد من البلدان العربية العرقية أراضٍ لا تستخدمها أو يمكنها بسهولة الاستغناء عنها بأي حال من الأحوال.
8. ويمكن لهذه البلدان - بدرجاتٍ متفاوتة - أن تستفيد من بعض المال.
ولقد تعلمتُ من خبرتي المصرفية في بيع المشتقات المالية المخصصة أنه لا يوجد شيء أفضل من المنافسة الصحية الصغيرة والخوف من تفويت الفرصة لإثارة رغبة البائع العنيد في عقد الصفقات.
فدعونا نبرم صفقة.
دعونا نبرم صفقة لا تقوم على التمنيات السياسية فحسب، بل وأيضًا على الطبيعة البشرية والحقائق المالية والمصلحة الذاتية واقتصاديات التنمية ومُختلف فنون التفاوض والإقناع.
وبشكل أكثر تحديدًا، دعونا نفتح الباب لمزادٍ من نوعٍ ما.
الجزء (3) من (4): حلُّ الخروج المشترك من الأزمة الفلسطينيَّة: إن بنيناها، فسيقدمون إليها
مقطع الفيديو (3) المقابل على YouTube: https://www.youtube.com/watch?v=CAPtBjwlANUعلى عكس خطط السلام السالفة، من كيسنجر وحتى كوشنر، فإن خطة الحل إلى دولتين لكنهما متباعدتين لا تتطلب من مختلف الأطراف تقديم تنازلات كبيرة ضد مصالحهم الذاتية، ولكنها - في البديل - تعزز من الفائدة المتحققة للجميع، مع الحد من التكاليف والتنازلات التي يتصوّرها كل طرف على حدة، أو على الأقل إزاحتها جانبًا.
فعلى عكس ما يظنه بعض المُنظرين، لا يتمثل «فن إبرام الصفقات» في انتزاع أقصى قدر من التنازلات من الطرف الآخر. وإنما يتشكل من خلال تحديد الفوائد والمنافع التي تنال قدرًا أكبر من التقدير من جانبك، وكذلك من خلال العثور على وسيلة تحقيق تلك الأهداف عبر التنازلات التي يُعطيها الجانب الآخر قدرًا أقل من الأهمية.
وفي هذه المرحلة، ما الذي تعتقد إسرائيل أنها في أمس الحاجة إليه؟ حدودٌ آمنة لا يمكن حفر الأنفاق تحتها.
وما الذي يريده الإنسان الفلسطيني العادي العالق في غزة أو الضفة الغربية؟ من المؤكد أن ما يريده ليس دولة مستقلة بجوار إسرائيل حتى تستمر الحرب. فبعد البقاء والنجاة، ربما ما يريده معظم الفلسطينيين ببساطة هو ما يريده معظمنا – فرصة للعيش بكرامة وأمن، مع الأمل في المستقبل.
ما الذي تريده معظم الدول العربيَّة؟ ما يريدونه هو وضع نهاية دائمة لمشكلة فلسطين وللحرب المستمرة منذ 75 عامًا قبل أن تُهدد مصالحهم الاقتصادية؛ وما يريدونه هو عرقلة طموحات إيران نحو قيادة العالم الإسلامي؛ وما يريدونه هو تعزيز مكانتهم على المسرح العالمي.
وأخيرًا، ما الذي تريده الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى؟ هنا يزداد الأمر تعقيدًا، ولكنهم يستنتجون جميعًا أنه على الرغم من تحالف بلادهم رسميًا مع إسرائيل، إلا أن قطاعاتٍ كبيرة من ناخبيهم يتعاطفون مع الفلسطينيين في غزة ويعتقدون أن الحرب الإسرائيلية غير أخلاقية، إن لم تكن إبادة جماعية. ولقد أطاحت تظاهرات حرب فيتنام بالرئيس الأمريكي. ومن الممكن أن تؤدي الاحتجاجات المتصاعدة تنديدًا بالحرب في فلسطين إلى الإطاحة بالإدارات الحاكمة في واشنطن وحتى وارسو. ولذلك تحتاج القوى الغربية إلى نهاية سريعة للحرب، وليس مجرد هدنة، وإنما حلًا طويل الأمد تتحقق فيه مصلحة جميع الأطراف بوضوح، ويُرضي الناخبين المؤيدين لإسرائيل والآخرين المؤيدين للفلسطينيين على حد سواء.
فهل حققتُ صفقة رابحة للأطراف الأربعة جميعا؟
الخطة (أ): أن تُخصص المملكة العربية السعودية 10 آلاف كيلو متر مربع، أي 0.5 % من مساحتها البالغة 2,150,000 كيلو متر مربع، إلى جانب ميزانية تمويل مُعتبرة، لإنشاء دولة فلسطين الجديدة ذات السيادة. ويبلغ طول ساحل البحر الأحمر في المملكة العربية السعودية 1800 كيلو متر؛ فإذا خُصِّصت قطعة أرض بطول 200 كيلومتر (من طول الساحل) × عرض 50 كيلومترًا (إلى الداخل) فلن تخلق أزمة كبيرة. (فساحل غزة يبلغ بالكاد 40 كيلومترًا فقط، والضفة الغربية منطقة غير ساحلية، أما نهر الأردن فهو مجرد جدول في أخدود طويل). وإذا وُزِّع 5 ملايين فلسطيني في 10,000 كيلومتر مربع، فستبلغ الكثافة السكانية 500 فرد لكل كيلومتر مربع، وهي مماثلة للكثافة السكانية في إسرائيل، وهي أفضل عشرَ مرات من كثافة السكان في غزة والتي تصل إلى 5,500 شخص لكل كيلومتر مربع.
ومهما كان المبلغ الذي تُسهم به المملكة العربية السعودية مباشرةً في البنية التحتية والتنمية، فبمجرد تأكّد إقامة دولة فلسطين الجديدة ذات السيادة بدرجة معقولة، سيسارع غيرها نحو تمويل المزيد من التنمية - وهذا يتضمن الدول العربية الأخرى الغنية بالنفط وكذلك بروناي واليابان والصين وسنغافورة والاتحاد الأوروبي.
ومن شأن الخطة (أ) أن تضمن للمملكة العربية السعودية مكانة ونفوذًا عالميين أكبر من كل مخططاتها على مستوى الرياضة ومُدن المستقبل المقامة في الصحراء. وستُحل المشكلة الفلسطينية بيُسر وتكلفةٍ زهيدة.
ولكن دعونا نفترض أن السعوديين ببساطة لن يتنازلوا عن الأراضي؟
تعد الخطة (ب) أعلى تكلفة، ولكنها لا تزال في المتناول:مصر: سواء بمشاركة المملكة العربية السعودية أو دون مشاركتها، ستشتري الدول العربية الأخرى الغنية بالنفط 10 آلاف كيلو متر مربع (ما يمثل 1٪ فقط من مساحة مصر)، وستوفر الأموال اللازمة من أجل البنية التحتية وخلافه. وتكابد مصر ديونًا خارجية تبلغ 165 مليار دولار فضلا عن اقتصادها المُحتضر. وقد تغريها صفقة تستطيع من خلالها سداد جزء من ديونها وإنعاش دخلها من السياحة وقناة السويس.
أما بالنسبة للدول العربية الغنية بالنفط، فيُعد هذا استثمارًا لشرعيتها العرقية والثقافية - خاصة في مواجهة إيران الدخيلة على المُجتمع العربي، والتي عكفت على تمويل وتأجيج الكثير من الأزمات في المنطقة. فهل عساهم سيتنازلون عن 5% من ثرواتهم المتراكمة (رسوم إدارة صناديق التحوط لمدة عامين) من أجل إحلال السلام وتخفيف حالة الضبابية والحد من المخاطر القائمة، فضلًا عن سحق الطموحات الإيرانيَّة في المنطقة؟ بالتأكيد سيفعلون ذلك. وإذا لم يفعلوه، فمن المؤكد أن هذا سيكلفهم المزيد على المدى الطويل.
يُزعم مثلا أن قطر قد أنفقت أكثر من 200 مليار دولار لاستضافة بطولة العالم لكرة القدم عام 2022. فهل تستطيع تخصيص 50 مليار دولار أمريكي من أجل قضية أكثر جدارة واستحقاقا؟ وإذا لم تتمكن من فعل ذلك أو لم ترغب في فعله، فما معنى كل ما تُطلقه الدول العربيَّة من مناشداتٍ من أجل السلام؟ ومن المؤكد - فيما يبدو - أن أي دولة، سواء كانت الكويت أو قطر أو الإمارات العربية المتحدة أو المملكة العربية السعودية، ستضخ أموالا طائلة، فستضطر الدول الأخرى إلى اللحاق بها، وإذا لم يكن انضمامها هذا تضامنا، فعلى الأقل لحفظ ماء الوجه. ولكنهم سيُؤثرون الانضمام، بدلا من السماح بتدهور مكانتهم في أعين المسلمين في كل مكان، وهو الأمر الذي ستنتشي له إيران.
أما أثناء مُخاطبة المنشقين الداخليين، فيمكن للدول العربية الثريَّة أيضًا أن تتذكر بأنها تدين بسيادتها وحقولها النفطية إلى قرارات اتخذتها - بالصدفة وعلى عكس مسار الأحداث - الدول نفسها التي خلقت الأزمة الفلسطينية من الأساس. فدعونا ننعتها باعتبارها «العناية الإلهية». فلولا الإنجليز، لبقيت الكويت قبيلة عراقية صغيرة. (بل الواقع هو أن الكويت قد شنت تمردًا لعدة عقود - قبل اكتشاف نفطها - من أجل إعادة ضمها إلى العراق الغني بالنفط آنذاك بالفعل، بدلًا من البقاء تحت الحماية البريطانية). ولولا الأمريكيين، لأعادها صدام حسين إلى أدراج دولته باعتبارها قبيلة صغيرة مجددًا، قبل أن يبتلع الإمارات وحقول النفط السعودية المنتشرة على الخليج العربي (وأقصدها هنا جميعًا)، وما كان ليتوقف حتى ولو وصل إلى حدود جيبوتي. ومن الحكمة أن تكون تكلفة البقاء في نعيم تلك «العناية الإلهية» لا تتجاوز نسبة 5% فحسب.
وقد أطلقت مُبادراتٍ سابقة طلبت من مصر استيعاب عدد أكبر من المهاجرين، لكن هيهات أن يحدث ذلك، ولذلك فقد حان الوقت للحديث عن أراضٍ ذات سيادة، لا عن مُخيماتٍ للاجئين. ولن يحدث الأمر في صورة وعود غامضة تخرج من الولايات المتحدة أو فم جاريد كوشنر (والذي حالت يهوديته دون أن يصبح الشخص المناسب ليُملي على المُسلمين ما يتعيَّن عليهم فعله — ألم يُدرك أحد في واشنطن هذا الأمر؟)، وإنما سيحدث بأموال حقيقية تخرج من جيوب الأشقاء العرب بأنفسهم، عدًا ونقدًا دون تسويف.
ولا يمكن لشمال سيناء (في مصر) أن تكون موقعًا لفلسطين الجديدة، فهي ملاصقة لإسرائيل، ويبدو أن هذا الأمر قد غاب عن الجميع أيضًا. لكن الموقع الأكثر منطقية هو جنوب غرب سيناء، والذي تفصله عن إسرائيل ومصر صحراءٌ فارغة، فضلًا عن الجبال، وهي منطقة لا تعود على مصر - كدولة - بالكثير من النفع. وماذا عن المساحة المسطحة والجبلية حول منطقة الطور الساحلية، والتي لا يتجاوز قاطنوها 30 ألف نسمة فحسب؟
بالمناسبة، ما هي تكلفة 10 آلاف كيلومتر مربع من الأراضي شبه الفارغة التي لا تختلف نسبة إشغالها كثيرًا عن ذلك؟ فإذا أخذنا الأراضي الزراعية في الاتحاد الأوروبي باعتبارها نقطة بداية، فستبلغ تكلفة 10 آلاف كيلو متر مربع حوالي 10 مليارات دولار أمريكي. ويمكننا التفاوض من تلك النقطة، صعودًا أو هبوطًا، ولكن هذا هو النطاق التقديري للتكلفة.
أما إذا لم تتمكن مصر من اتخاذ قرارها بسرعةٍ كافية،
فالخطة (ج) هي الأردن. وينطوي هذا الخيار على عيب بسيط، ولكن قد يسهل التفاوض بشأنه. تتألف الأردن من 89 ألف كيلو متر مربع؛ ولا تتجاوز ديونها سوى 40 مليار دولار أمريكي فقط؛ ولها نفس الناتج المحلي الإجمالي/ نصيب الفرد مثل مصر؛ ويقودها ملك مُوقَّر تلقى تعليمه في المملكة المتحدة؛ وولي العهد متزوج من امرأةٍ سعودية لها علاقات بالعائلة المالكة. إن المنطقة البارزة (النتوء) في شمال شرق الأردن منطقة حبيسة لا سواحل لها، لكنها تكاد تكون غير مأهولة؛ حيث يبلغ عدد سكانها 15 ألف نسمة فقط. وقد خُصص تلك المنطقة البارزة بأكملها لشرق الأردن في عامي 1921 و1922 لا لشيء سوى السماح لخط أنابيب النفط العراقي من الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط عبر الأراضي التي تسيطر عليها بريطانيا. وقد أغلق خط الأنابيب هذا عام 1948، وبالتالي فإن الأساس المنطقي لتلك المنطقة البارزة كان موضع نقاش منذ فترة طويلة، ولم يفعل الأردن شيئًا على الإطلاق به حتى الآن.
وتتميز هذه المنطقة البارزة بأمطار متقطّعة، تبلغ 150 ملم فقط سنويًا، ولكن يمكن تجميع الأمطار وتوجيهها على غرار البتراء، وهو ما يتفوق على الوضع في الضفة الغربية التي لا تشهد أي أمطار على الإطلاق، أو الوضع في غزة التي تشهد هطول أمطار تبلغ 300 ملم سنويا ولكن لا يُمكن جمعها. هناك أيضًا تقنيات ناشئة لاستخراج المياه من الهواء بكفاءة من ناحية التكلفة نظرًا لنسبة الرطوبة التي لا تقل عن 30% (الرطوبة المعتادة في الأردن تتراوح بين 30 و40%). وتتمتع المنطقة بدرجات حرارة شبه استوائية لطيفة (تُشبه طقس دارجيلنغ)، كما تتمتع بحماية أفضل بسبب ارتفاع مستوى سطح البحر (بارتفاع يزيد عن 600 متر مقابل 14 مترًا فقط في غزة). ومن خلال التنمية الذكية التي تراعي البيئة، يمكن أن تقع فلسطين الجديدة المثالية التي تبلغ مساحتها 10 آلاف كيلومتر مربع في أحد أركان الأردن.
الخطة (د): شمال إفريقيا، وهي منطقة أبعد نسبيًا لكنها تضم ستة بلدان أخرى يمكن تصور إقامة فلسطين الجديدة عليها، في ضوء الحوافز المناسبة المصممة حسب ظروف كل بلد.
ولا شك أن هذه البدائل لا تخلو من المشكلات، ولكن هناك احتمالات بالتوصّل إلى صفقة عملية في مكان ما من هذه السلسلة الطويلة التي يُمكن إقامة فلسطين الجديدة بينها.
في السابق، حين كانت مصر الوجهة الوحيدة المنشودة، أو الحسناء الوحيدة في هذا الحفل، فإنها لم ترد على إلحاح جاريد كوشنر سوى بالرفض والمقاومة. ولكن بفضل الخطط (أ) و(ب) و(ج) و(د)، صار بالحفل تسعة حسناواتٍ (المملكة العربية السعودية ومصر والأردن والصحراء الغربية والمغرب والجزائر وتونس وليبيا والسودان) ويتوجب اختيار واحدة فقط منها لأداء الرقصة. وهنا نجد حظوظًا وافرة في اقتناع أيٍّ من تلك الدول بأن تأخذ دور البطولة في هذا الحدث.
وفي حل الدولتين المتباعدتين، ستُبرهن الشعوب العربيَّة على صدق رغبتها المُعلنة في إرساء السلام. وستكتسبُ هيبتها. وستُحبط طموحات إيران، وبتكلفة لا تُذكر بالنسبة للدول الغنية بالنفط. وستحظى بقية العالم بوقف لإطلاق نار على المدى الطويل، مع وضع تفاصيل الخطة والشروع في تنفيذها. وستصبح مهمة شاقة، لكن العالم سيكون على قدر هذه المهمة.
إن نخبة الشخصيات والشركات العالمية، كل في مجاله، ربما لن يُقدموا أيادي الدعم لقضية بائسة وميؤوس منها مثل غزة، لكنهم في نفس الوقت قد يضخون أموالهم وعبقريتهم وطاقتهم إذا كان ذلك تحت عنوان «فلسطين الجديدة». وسيُعد هذا انتصارًا كاملًا للعالم، وخطة أفضل بكثير من تقديم المزيد من الوعود الكاذبة للفلسطينيين — «ستستمعون بمستقبل مُبهر إن أنشأنا لكم دولة فلسطينية مُستقلة بجوار إسرائيل».
أما القوى الغربية فستتمكن من نزع فتيل الاستقطاب بين قطاعات الناخبين والتوفيق بين الدعم الرسمي الحكومي لإسرائيل وبين تحقيق نتيجة شديدة الإيجابيَّة لصالح الشعب الفلسطيني.
وستمثل هذه الخطة فوزًا لإسرائيل بنسبة 90%، فتنازلاتها الوحيدة ستتمثل في بعض التعاطف العالمي وكذلك (وبشكل شبه مؤكد) الالتزام بدفع تعويضات الحرب (والتي كانت ستُسدد في نهاية المطاف من خلال خُطط السيد/ كوشنر لتنمية الواجهة البحرية بغزة).
أما الشعبُ الفلسطيني، فسيتعين عليهم أن يُقدموا ما يعتبره البعض منهم تنازلًا هائلًا، ألا وهو الابتعاد عن وطنهم. لكن هذا القرار قد اتخذه من قبلهم ملايين الفلسطينيين (ممن انتهي بهم المطاف في الأردن وسوريا وتشيلي والعديد من الأماكن الأخرى)، وربما يُقدم غيرهم الكثير على فعل الأمر نفسه، إذا ما توافر لهم مكانٌ للرحيل إليه. ومقارنة بالعيش في المخيمات أو تحت الحُكم الإسرائيلي، فإن الانتقال إلى الوط الجديد لن يبدو خيارًا قاتمًا للغاية. وإذا تمكن بضع مئات آلاف الفلسطينيين من تجاوز هذه العقبة، فسيفوزون أيضًا بنسبة 90٪ - مساحة للعيش ومبانٍ وبنية تحتية جديدة، ودولة فلسطين الجديدة ذات السيادة، وكل ما في الأمر أنها لن تكون داخل فلسطين الأصلية.
إن بنيناها، فسيقدمون إليها.
على النقيض من فلسفة «سرقة الجار وإفقاره» التي يتبناها بعض صانعي الصفقات المُحتالين، فإن هذا هو «فن إبرام الصفقات» الحقيقي، ويُمثل انتصارًا حقيقيًا للجميع؛ لإسرائيل وفلسطين والعالم العربي، بل وللعالم أجمع.
إن حل الدولتين المُتجاورتين يحظى بدعم جميع دول العالم تقريبًا. وقد جانبهم الصوابُ جميعًا في ذلك.
على مدى 75 عامًا، ظلت صياغة خطط السلام المُتصوّرة لفلسطين حكرًا على رجال الدولة و«الخبراء» العاجزين عن رؤية البديهيات، فهم سُجناء تقيدهم خبراتهم وتخصصاتهم، ولا يتورعون عن مُطالبة الجانبين بتقديم تنازلات كبيرة تتعارض مع المصلحة الذاتية لكل جانب. وسيعترض كثيرون منهم على حل الدولتين المتباعدين بمنطقٍ مخادع وحقائق مُحرّفة.
لكن الحقيقة الدامغة، التي لا يستطيعون تحريفها، هي النتائج السلبية لحلولهم السابقة والتي باءت بالفشل التام والكامل على المدى الطويل. وفي الوقت نفسه، فإن الحل الحالي («هيا بنا نتسامح وننسى ما حدث ونبدأ صفحة جديدة من الآن») هو ببساطة حل ساذج، إن لم يكن شديد الغباء.
لقد حان الوقت لإنهاء المشكلة الفلسطينية — من خلال حل الدولتين المتباعدتين، وهو حل للخروج المُشترك دون غالبٍ ومغلوب.
إن بنينا فلسطين الجديدة، فسيقدمون إليها.
الجزء (4): حلُّ الخروج المشترك من الأزمة الفلسطينيَّة: الخلاصة والتفنيدات
مقطع الفيديو (4) المقابل على YouTube: https://www.youtube.com/watch?v=40L7cUUVDHo&t=2sيحظى حل الدولتين بدعم مُعظم الدول نظرًا لما تشهده فلسطين من مذابحٍ مستمرة.
وجميعهم مُخطئون في هذا الحل.
إن حل الدولتين سيمنح الفلسطينيين «السيادة»، لكنهم في نفس الوقت سيعيشون في بؤس اقتصادي وعلى الأنقاض التي دمرها القصف، يتلمَّسون المساعدات الخارجية، ويقدمون العمالة الرخيصة لإسرائيل. فمثل هذه «السيادة» لن تكون سوى خدعة!
أما إسرائيل، فسيُطلب منها في هذا الحل أن تتنازل عن الأراضي لتُقام عليها دولة شديدة العداء بجوارها مباشرة، وجاهزة لإعادة تسليحها من قبل إيران. فكرة محكوم عليها بالفشل!
فهي فكرة خادعة من ناحية، ومن الناحية الأخرى لا أمل في نجاحها. ألا يُدرك أحد هذا الأمر؟
إن المحاولات التي أجريت منذ عام 1948 لحل المسألة الفلسطينية حلَّا دائمًا قد باءت جميعًا بالفشل. وما القاسم المشترك بين كل تلك المحاولات؟ أنها اعتبرت فلسطين كما لو كانت صراعًا صفريًا على منطقة محدودة، لابد أن ينتهي إلى غالبٍ ومغلوب.
وحان الوقت الآن للإصغاء رأي خارجي يقترح الحل الواضح للخروج المشترك دون غالب أو مغلوب.
فالصفقة الماهرة تمنح كل جانب ما يريده بشدة، مقابل أقل قدر ممكن من التكاليف بالنسبة له.
فما أكثر ما تريده إسرائيل؟ حدودٌ آمنة لا يمكن حفر الأنفاق تحتها.
وماذا عن عوام الفلسطينيين؟ بالطبع لا يريدون «دولة مستقلة بجوار إسرائيل حتى تستمر الحرب». بل يريد الفلسطينيون ما يريده معظمنا: الأمان والرفاهية المادية والأمل.
ما الذي تريده الدول العربيَّة الغنية بالنفط؟ السلام، بما يحمي مصالحهم الاقتصادية. تعزيز الهيبة والمكانة والتأثير على الساحة العالمية. عرقلة طموحات إيران العالمية. وفي الوقت نفسه، تمتلك هذه الدول ثروة متراكمة تبلغ 4 تريليونات دولار أمريكي، وتبدي حرصها الواضح على إنفاق أموالها بما يحقق أهدافها على المدى الطويل.
ما الذي تحتاجه الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى؟ يحتاجون إلى حل ناجز وسريع وطويل الأمد أيضًا، حتى يتمكنوا من التعامل مع التأييد الواسع للفلسطينيين بين ناخبيهم. ويجب أن يُنظر إليهم باعتبارهم يقفون إلى جانب إسرائيل ولكنهم يضمنون أيضًا تحقيق نتائجٍ إيجابية للفلسطينيين. لكنهم حتى الآن كمن يرقص على درجات السلم. ومن شأن هذا الفشل أن يُهدد الأغلبية أو الائتلافات الحاكمة الحالية، ومن خلال انقسام اليسار والوسط، سيعطي كرسي الحُكم إلى الانعزاليين. وهذا بدوره من شأنه أن يعرض أوكرانيا وتايوان، ومعهما العالم الحر في نهاية المطاف، للخطر.
فهل حققتُ صفقة رابحة للأطراف الأربعة جميعا؟
إن الحل الواضح للخروج المشترك دون غالبٍ ومغلوب ليس في حل الدولتين المتجاورتين، بل في حل الدولتين المتباعدتين.
وها هي الصفقة: تنشئ الدول العربية الغنية بالنفط صندوقًا (ولنقل) بقيمة 200 مليار دولار أمريكي للاستحواذ على الأراضي وتطويرها وتنميتها. وقد يبدو هذا مبلغًا مهولًا بالنسبة للشخص العادي، ولكنه ليس كبيرًا بالنسبة لدول تمتلك 4 تريليونات دولار. ثم تشترى مساحة 10 آلاف كيلومتر مربع (بما يعادل تقريبًا غزة والضفة الغربية مجتمعتين) في مكان ما بعيد عن إسرائيل، لإقامة دولة فلسطين الجديدة ذات السيادة.
ويمكن للمملكة العربية السعودية ببساطة أن تتبرع بجزء من ساحلها على البحر الأحمر، لدوافع إنسانية. أما الإمكانية الأخرى للاستحواذ مقابل مبالغ نقدية فهي جنوب غرب سيناء في مصر، وهي منطقة تعزلها الجبال بالفعل. أما السيناريو الآخر فهو المنطقة البارزة في شمال شرق الأردن، والتي تكاد لم تُستخدم إلا نادرًا منذ استحوذت عليها المملكة الأردنية الهاشمية بالمجان عام 1922. وثمة ست دولٍ أخرى في شمال إفريقيا قد تتوافر لديها قطع أراضٍ وقد تفكر في مقايضتها مقابل المال.
ومع وجود تسعة مصادر محتملة للمواقع والحاجة إلى موقع واحد فقط، فمن المحتمل أن تتقدم دولة واحدة لتؤدي دور البطولة في هذا الحدث.
كما أن الممولين ورجال الأعمال ليست لديهم رغبة في الاستثمار في مناطق الصراع والحروب. ولكن بمجرد طرح فكرة إقامة فلسطين الجديدة في مكانٍ آخر، فسيُغدق الدعم من بقية دول العالم.
الاعتراضات المتوقعة:
اعتراض جدلي بدعوى الإصابة بمتلازمة دانينغ كروجر (اعتزاز الجاهل برأيه أكثر مما يجب): أنك - عزيزي الكاتب - لست خبيرًا في شؤون الشرق الأوسط. فلا تُدرك مدى عُمق جهلك المركب به. التفنيد: إن معظم الإنجازات الحقيقية تأتي من الغرباء ذوي العقول القادرة على التفكير المُرتب، ودون أجندات شخصية للتمسك بها، ولا قناعات «مفضلة» أو «محببة للنفس». وقد فشل الخبراء في إيجاد حل للمشكلة الفلسطينية على مدى 75 عامًا. وإن الحل المطروح مؤخرًا (وهو: هيا بنا نتسامح وننسى ما حدث ونبدأ صفحة جديدة من الآن) هو حلُّ ساذج بكل وضوح. وكل ما عليك فعله هو أن تسأل: أي منطقة من المناطق الجغرافية الواقعة داخل فلسطين الحالية يجب أن تتحول إلى دولة فلسطين الجديدة ذات السيادة؟ وبمجرد التفكير في العواقب العملية لأي إجابة على ذلك السؤال، ستدرك على الفور مدى سذاجة الحل.
إن الكراهية المتبادلة تضرب بجذورها في الأعماق. وهذا بالضبط السبب وراء الرغبة في فصل الجانبين بعيدًا أحدهما عن الآخر.
إن كبرياء الفلسطينيين متجذر في أنفسهم ولن يرحلوا. ليس صحيحًا. لقد غادر الملايين بالفعل بعد الحروب الماضية، وسيتبعهم كثيرون آخرون، لو كان هناك مكان ليتوجهوا إليه. وليست هناك حاجة حتى إلى أغلبية فورية. في عام 1948 كان عدد السكان اليهود في إسرائيل 850 ألف نسمة. وكانت مثالا لقاعدة «إن بنيناها، فسيقدمون إليها». وهو نفس الشعار الذي ستتبعه «فلسطين الجديدة»
لم نطرد الفلسطينيين بدلا من طرد اليهود؟ هذا ليس طردًا، وإنما حافزًا. لا يمكننا التفكير في أي حافز يُقنع الإسرائيليين بالرحيل، لكننا في الوقت نفسه نجد أن فلسطين الجديدة ذات السيادة إذا أقيمت في موقع لائق، فمن شأنها أن تجتذب قطعًا العديد من الفلسطينيين. بوسعنا أن نواصل حمل الضغينة، مهما كانت مُبرَّرة، في الجدال إلى الأبد حول أرض موبوءة لا أمل فيها لتحقيق الأمن والازدهار في المستقبل. أو يمكننا المضي قدما.
لن تُساهم في ذلك الدول الغنية بالنفط. إذا أخذوا بعين الاعتبار الصورة الأكبر للموقف الحالي، فسيفعلون ذلك. وفي السياق الفلسطيني، ظهرت الدول العربية على أنها "ضحايا للعدوان الإسرائيلي والتدخل الأجنبي". فهذه فرصة لكي يُظهروا للعالم أنهم يستطيعون اتخاذ إجراءات حازمة وذات مغزى وأن يكونوا أبطالًا بدلًا من أن يكونوا الضحايا. إن مبلغ 200 مليار دولار زهيد، بل إنه أقل مما أنفقته قطر لاستضافة ألعاب الفيفا لعام 2022. كما أن الحرب المستمرة ومحاولات التخفيف من محنة الفلسطينيين تكلف أموالًا كان من الأفضل إنفاقها على بناء فلسطين الجديدة في مكان آخر. وأخيرًا، إذا لم تنفق الدول العربية الثرية هذه الأموال الآن، فتتكبد المزيد لاحقًا بسبب تزايد نفوذ إيران. وسيكلّف ذلك العالم بأسره الكثير والكثير إذا أصبح التطرف على النمط الإيراني هو السائد في نيجيريا وتركيا وباكستان وماليزيا وإندونيسيا وبنغلاديش، وفي النهاية في الدول العربية نفسها.
لا توجد صفقة دون النظر في إمكانية وصول المسلمين إلى قبة الصخرة في القدس. لا تهتم حتى بماهية هذه المسألة. إنها مجرد مسألة غير مهمة وعائق مُتعَمَّد، مثل أن توافق على اختيار صديقك للفيلم فقط إذا كان بإمكانك الحصول على موعد مع الممثل الرئيسي. الأشخاص الذين يثيرون هذا "المطلب" هم من يستعرضون مقدار معرفتهم، أو الذين لا يريدون حلاً ذا مغزى على الإطلاق. وأغلبهم لا يتضورون جوعًا في غزة، بل يحصلون على تغذية جيدة ويستطيعون التنظيرمن الأمان والراحة في طهران أو برلين.
لكن هذا يمنح إسرائيل كل ما تريده تقريبًا. التفكير الصفري ليس الحل. فبدلاً من ذلك، فكِّر كيف يستفيد الجميع مقارنةً بالبدائل الواقعية لكل طرف.
لا تنص هذه الخطة على إطلاق سراح الرهائن. كما أنها لا تعالج السرطان. لكنها ستُجنب بالتأكيد المزيد من الوفيات مقارنةً بالاستمرار في الحرب أو فرض حل الدولتين بجانب بعضهما. وسوف يكون قادة حماس أكثر استعدادًا لإطلاق سراح الرهائن مع تراجع الدعم الشعبي لهم من الفلسطينيين بمجرد إعلان وقف إطلاق النار من طرف واحد، وبدء تدفق المساعدات الإنسانية، وظهور أفق لحل طويل الأمد حقيقي.
وإسرائيل لم توافق بعد. حتى الآن، لم يُعرَض على إسرائيل أي شيء ذو قيمة مقابل وقف إطلاق النار. بمجرد أن تُمنح فرصة واضحة لتحقيق أهدافها الأمنية وجميع أهدافها المشروعة، سيكون عليها أن توافق، أو ستواجه إدانة العالم بحق على أن حربها هي إبادة جماعية بدلاً من أن تكون دفاعية في نيتها.
حماس لن توافق على ذلك. الاتفاق معهم ليس ضرورياً. يمكننا أن نأمل أن معظم أعضاء حماس هم عاقلون وسينظرون إلى "فلسطين الجديدة" على أنها "المهمة المُحقَّقة" بالنسبة لهم. العناصر غير العقلانية قد لا تزال تسبب الاضطرابات من خلال الكمائن أو التفجيرات الانتحارية، لكن هذا الخطر موجود في أي مكان في العالم، بغض النظر عما يُفترض أنه تم الاتفاق عليه، وسيكون أعلى بكثير في نتيجة فرض حل الدولتين بجانب بعضهما. إن "حل الدولتين بعيداً عن بعضهما" يقدم، من حيث المخاطر، أقل احتمال لاستمرار الإرهاب أو الأذى للرهائن.
إن بناء دولة من الصفر أمر مستحيل. بغض النظر عن المشاكل المتوقع أن تواجهها أي "فلسطين جديدة في مكان آخر"، فإنها ستكون أسوأ بكثير من إعادة بناء فلسطين وسط الأنقاض. قامت الصين بشكل روتيني ببناء مدن لعشرات الملايين في العقود الماضية. يمكن للولايات المتحدة واليابان والاتحاد الأوروبي، إذا كانوا يميلون إلى ذلك، أن يقوموا بذلك أيضاً. إن أفضل وألمع العقول في مجالاتهم، بدءًا من القانون الدستوري إلى البحث العلمي إلى الهندسة والبناء النموذجي، لن يدعموا قضية يائسة في غزة، لكنهم قد يساهمون بطاقاتهم وعبقريتهم في بناء "فلسطين الجديدة".
إن المئات من الفلسطينيين يموتون كل يوم، أما العالم فيقف على شفا حفرة من الوقوع في صراع أوسع، قد يقلب النظام العالمي رأسًا على عقب. ويحتاج صناع القرار إلى التحلي ببعض التواضع؛ وتقبل النصائح العاقلة التي تأتيهم من خارج الصراع والبدء في تنفيذ حل الدولتين إلى دولتين متباعدتين. وهو ما من شأنه أن يمنح الأطراف الأربعة كل ما يحتاجون إليه بالضبط، وبتكاليف في متناولهم.
إن بنينا فلسطين الجديدة، فسيقدمون إليها.